صباح الرابع عشر من يونيو الماضي، اقتيد صابر من مخزن بمنطقة ميناء كالاماتا اليوناني، خُصص لاحتجاز الناجين من غرق مركب هجرة، وأخذته قوة من خفر السواحل اليوناني إلى مركز للشرطة قريب، ليجد نفسه أمام مُحققة وبينهما مترجم. حينها، عرف أنه قيد التحقيق باعتباره متهمًا بالمسؤولية عن غرق المركب الذي نجا منه، قبل ساعات.
ما يقرب من 750 شخصًا -أغلبهم باكستانيون، و200 مصري، وبعض الفلسطينيين والسوريين- كانوا على متن المركب الذي انطلق من السواحل الليبية متجهًا إلى شواطئ أوروبا، لكن المركب ضل الطريق ثم تعطل محركه قبل أن يغوص بمَن عليه إلى أعماق «المتوسط»، في الساعات الأولى من صباح الأربعاء 14 يونيو.
نجا صابر مع 103 آخرين، فيما عُثر على 84 جثة، وما زال نحو 562 شخصًا في عداد المفقودين، حتى الآن، في واحدة من أبشع حوادث غرق المهاجرين أمام سواحل أوروبا.
لم يكد صابر يفيق من هول الكارثة أو يستوعب نجاته، حتى أبصر أصابع خفر السواحل اليوناني تشير إليه مع ثمانية مصريين آخرين ممن تشارك معهم تجربة الموت والنجاة، تحمّلهم المسؤولية عن المأساة، مبررةً ذلك بإفادات عدد من الناجين أشارت إلى أدوار قيادية لهؤلاء التسعة على متن المركب خلال الرحلة المشؤومة.
هنا، نروي لكم ما نعرفه عن مسار التحقيق مع المصريين التسعة، وظروف احتجازهم، من واقع شهادات أدلوا بها لمنصة OmniaTV اليونانية، وإفادات عدد من ذويهم لـ«مدى مصر»، بما تشير إليه عن الأطراف الحقيقية المسؤولة عن الكارثة، وما شاب التحقيقات من شبهات بشأن دفع السلطات اليونانية لتقديم التسعة ككبش فداء، والتملص من مسؤوليتها عن النهاية المأساوية للمركب.
جمعت «OmniaTV» شهادات المتهمين عبر الهاتف في أثناء تواجدهم في السجن، خلال يوليو وأغسطس الماضيين، بعدها تعذر التواصل معهم.
بُعيد الكارثة، نقلت سلطات خفر السواحل اليونانية الناجين إلى مخازن في ميناء كالاماتا، عقب الاستماع إلى أقوالهم. مرت ساعات قليلة قبل أن يعود مسؤولو خفر السواحل إلى المحتجزين قاصدين بالتحديد تسعة أشخاص وسألوهم إذا ما كانوا يرغبون في الاتصال بذويهم. تحرك التسعة مع المسؤولين ليجدوا أنفسهم في مركز للشرطة، في مواجهة اتهامات بـ: التهريب، التسبب في موت الركاب، التسبب في غرق السفينة، دخول البلاد بشكل غير مشروع، تشكيل والانتماء إلى منظمة إجرامية.
يذكر صابر الضغط الذي تعرض له في مركز الشرطة، حيث ساومته مُحققة خفر السواحل: إما تحديد خمسة أو ستة أشخاص مِن بين مَن كانوا على متن المركب كمسؤولين، مقابل السماح لهم بالعودة إلى «مخازن الناجين»، أو تقديمهم للمحاكمة.
«لمّا كانت المحققة دي بتحقق معايا، قالت لي ‘الناس بيقولوا انت كنت بتقعّد الناس وبتشرّبهم»، يقول صابر واصفًا نوع الأدلة التي قدمتها المحققة على جريمته.
«قلت لها أيوة أنا آخر يوم قعّدت الناس وكنت بقولهم اقعدوا هنموت. أيوة كنت بسقي الأطفال، أنا ما أنكرتش، وأنا خايف، خايف على عيالي. أنا عندي تلات عيال وسايب مراتي»، يقول صابر مشيرًا إلى عائلته في مصر.
«قالت [المحققة] لي، طب إحنا علاقتنا كويسة مع السيسي، وعلاقاتنا كويسة في بلدكم، ولو معملتش اللي هنقول لك عليه، إحنا هنبهدل مراتك وعيالك»، يقول صابر إنه لم يرد على ما قالته المحققة، لكنه كان مرعوبًا.
بحسب «OmniaTV»، يتعرض المتهمون في قضايا تهريب البشر في اليونان لجملة من الانتهاكات خلال التحقيقات والحبس شملت: الاعتقال التعسفي، العنف والإكراه، محدودية أو انعدام فرص الوصول للمترجمين والمحامين، صعوبات في عملية تقديم طلبات اللجوء خلال احتجازهم.
أجمع المتهمون التسعة، بحسب الشهادات، على تعرضهم لضغوط بهدف إجبارهم على توقيع مستندات لا يعرفون محتوياتها، وحين تساءل البعض عنها، رد المترجم نيابة عن المحققة يخبرهم أنها جزء من الإجراءات البيروقراطية لطلبات اللجوء الخاصة بهم، فيما قال لآخرين -بعد لحظات من توجيه الاتهام لهم بالتهريب والتسبب في غرق السفينة- إنها كانت اعترافاتهم الرسمية. أمّا من رفضوا التوقيع، أو أظهروا علامات التردد، كانوا يقابلون بصراخ من المحققة أو المترجم أو ضابط الشرطة، وفي حالات أخرى قام المترجم بالتوقيع بدلًا منهم.
كان المتهمون طلبوا توفير الدعم ومترجم خاص من السفارة المصرية في أثينا، لكنهم لم يحصلوا على طلبهم في مرحلة تحقيقات خفر السواحل، ولم يلتقوا مفوَض السفارة إلا بعد انتقال التحقيقات إلى السلطات الجنائية، حينها وعدهم بإرسال مترجم في اليوم التالي، و طمأنهم وقال إنه يعلم إنه ليس خطأهم.
وقال القنصل المصري في اليونان، جورج إليني، لـ«مدى مصر» إنهم «أولادنا وزي إخوتنا، واجب مهني ووطني علينا إننا نأخد أوضاعهم في الاعتبار»، مضيفًا أن القنصلية على اتصال بالسلطات اليونانية للمتابعة مع المحتجزين وعائلاتهم ومحاميّهم، وأنهم نالوا الدعم، سواء كان شخصيًا أو متعلقًا بالقضية، وأن القنصل زارهم أربع مرات منذ اعتقالهم. إلا أنه تحفظ على ذكر أي تفاصيل إضافية تخص أوضاع احتجازهم أو موقفهم القانوني.
لم نتمكن من التواصل مع أيٍ من المتهمين التسعة للتحقق مما إذا كانوا قد حصلوا على دعم السفارة خلال فترة احتجازهم، كما أن محاميّهم رفضوا التعليق للإعلام «حرصا على مسار التحقيقات».
لكن الناجيان، أحمد ومصعب، قالا لمنصات إخبارية إن خفر السواحل أمر كل الناجين بالقول إن الرجال التسعة المصريين هم المسؤولون عن تهريبهم. «حُبسوا واتُهموا ظلمًا من السلطات اليونانية في محاولة للتغطية على جريمتها»، يقول مصعب.
أنهت سلطات خفر السواحل اليوناني تحقيقاتها، وسلّمت إلى سلطات التحقيق الجنائي إفادات تكاد تكون متطابقة، خاصة في خلوها من أي إشارة لدور مركب السحب اليونانية في غرق قارب الهجرة، رغم أن ناجين ذكروا ذلك في إفاداتهم.
واجه المحقق الجنائي المتهمين بأدلة ضعيفة على تورطهم. أجمع التسعة على أن المحققين أشاروا إلى سلوكهم على السفينة كدليل على مسؤوليتهم الجنائية: قدَّموا للركاب الآخرين الماء؟ هذا دليل على سلطتهم على المركب. وقفوا أو حتى تحركوا في المركب للحفاظ على توازنه في أثناء غرقه؟ إذن كانوا هم الزعماء على مدار الرحلة.
قال ناجي، 40 سنة، خلال التحقيق: «كل اللي عملته إني ساعدت الناس إنها تقعد. أطفال. فيه 10 أطفال جنبي وناس تانية. كنا بنروح ونيجي في المركب» للحفاظ على توازنها.
«عادي، إيه يعني سقيت طفل قاعد على المركب؟»، يستنكر مجدي، 27 سنة، في حديثه لـ«OmniaTV»، متذكّرًا كيف قفز إلى البحر ليمسك الحبال التي ألقت بها سفينة تجارية لتقدم المياه للمهاجرين على المركب، قبل ساعات من غرقها. ولهذا السبب، أصبح واحدًا من المتهمين التسعة، على الرغم من أن غالبية الناجين اتفقت على أن المهربين في ليبيا وضعوهم على السفينة وتركوهم يبحرون وحدهم.
يقول أشرف، 19 عامًا، إن القائد قفز من المركب فور انقلابه بعدما سحبه خفر السواحل اليوناني.
بعض الناجين المصريين وصفوا آخرين بأنهم كانوا في محل سلطة على القارب، وتتلاقى روايتهم حول شخصية «قبطان»، وهو طفل لا يزيد عمره عن 18 أو 19 عامًا، كان يغطي وجهه في أغلب الأحيان.
يقول المتهمون إن من بين الناجين أقارب وأصدقاء لهم، يمكن أن يثبتوا براءتهم إذا ما تم استجوابهم عما حدث، أو على أقل تقدير أن يشهدوا بأنهم دفعوا سويًا للمهربين في مصر وليبيا الرسوم نفسها (نحو خمسة آلاف دولار للفرد).
يمكن العثور على المزيد من الأدلة بسهولة، وفقًا لجمال، 25 سنة، أحد المتهمين التسعة، إذا تم الاهتمام بالاستماع إلى أقوال أهالي المتوفين مثلًا، وسؤالهم عن المهربين الحقيقيين الذين استقبلوا أبناءهم في ليبيا ودفعوا إليهم دولارات كثيرة.
تردد في معظم المقابلات مع المتهمين التسعة، اسم شخص ليبي يمتلك مزرعة أقام فيها المهاجرون في طبرق، وآخر مصري من المنوفية ويقيم في ليبيا، عمل كمرشد لبعضهم في الرحلة.
سجلت التحقيقات الجنائية ما تجاهله خفر السواحل، لكن ذلك لم يعن شيئًا لصالح المتهمين أو ضد سلطات الميناء اليوناني، حيث استمر حبس المتهمين على ذمة التحقيقات، ورُفض التماس تقدم به محامو المتهمين لإلغاء أوامر الاعتقال الصادرة بحقهم وإنهاء الحبس الاحتياطي.
طلب المحامون أيضًا جمع أدلة إضافية، وتحديدًا فيما يتعلق بثلاثين نقطة ذُكرت في التحقيقات، قائلين إن بعض هذه الأدلة قد يمكّن من الكشف عن صورة أوضح للمسؤولين عن الكارثة.
من بين تلك الأدلة التي طلب المحامون الأخذ بها/ فحصها، خلال التحقيقات، كانت هواتف الناجين الآخرين التي تحفّظ عليها خفر السواحل وعُثر عليها، بعد شهر ونصف من الحادث، وكذلك طلب إفادات إضافية من الناجين الآخرين، والتواصل مع جهات معنية بالمسؤولية لم تضف إلى ملف القضية.
لكن محقق الدائرة الجنائية الأولى في كالاماتا رفض تلك الطلبات بدعوى أن «لا أساس لها من الصحة»، وقرر إغلاق التحقيق، في يناير الماضي، وأحال القضية إلى المدعي العام للبت في إحالتها للمحاكمة، ليستمر احتجاز المتهمين التسعة في سجني نافبليو وأفلونا قيد الحبس الاحتياطي، لأجل غير مسمى.
«لسه مفيش ميعاد محدد للمحاكمة، والمحامين، اللي حقيقي صريحين جدًا، قالوا إنه ممكن يكون في أي وقت خلال 18 شهر [مدة الحبس الاحتياطي بحسب القانون اليوناني]»، تقول زوجة ناجي لـ«مدى مصر»، بينما لم تُخفِ فزعها من النتيجة المحتملة، «جوزي سمع أن الأحكام ممكن توصل لـ50 و100 سنة»، مشيرة إلى ما قد يفضي إليه تراكم الاتهامات.
في المقابل، يسعى بعض الناجين لإثبات مسؤولية خفر السواحل اليوناني عن غرق المركب، عبر شكوى جنائية تقدم 40 منهم بها إلى المحكمة البحرية في مدينة بيرايوس ضد مركز التنسيق الوطني للبحث والإنقاذ، الذي يعمل في مركز عمليات خفر السواحل اليوناني، والمسؤول عن المركب PPLS 920 الذي حاول سحب القارب المنكوب ما ساعد على غرقه، بحسب الشهادات.
* أسماء المتهمين وأسرهم مستعارة.