بدء محاكمة تسعة مصريين في اليونان بتهم تتعلق بتهريب المهاجرين، وسط دعوات حقوقية لتحقيق شامل في غرق سفينة “أدريانا” التي راح ضحيتها نحو 650 شخصًا في البحر المتوسط.
“زاوية ثالثة” نُشر لأول مرة على
شيماء حمدي
في 21 مايو الجاري، تبدأ محاكمة تسعة مصريين في جنوب اليونان بتهم تتعلق بإحدى أكبر حوادث غرق السفن في البحر الأبيض المتوسط. الناجون المصريون التسعة، الذين سيُحَاكَمُون في مدينة كالاماتا، نجوا من حادث غرق سفينة الصيد “أدريانا” في المياه الدولية بالقرب من بيلوس على الساحل الجنوبي الغربي لليونان.
انقلبت سفينة الصيد “أدريانا” في الصباح الباكر من يوم 14 يونيو 2023، مما أسفر عن وفاة نحو 650 شخصًا. السفينة كانت قد أبحرت من ليبيا قبل خمسة أيام، حاملةً نحو 750 مهاجرًا وطالب لجوء، أغلبهم من مصر وسوريا وباكستان. نجى 104 مهاجرين فقط وتم انتشال 82 جثة. |
تتراوح أعمار المتّهمين المصريّين التسعة بين الثلاثينات والأربعينات، ويواجهون تهمًا تشمل تهريب المهاجرين، والمشاركة في منظّمة إجراميّة، والتسبّب في غرق السفينة. في حال إدانتهم، قد يواجهون أحكامًا بالسجن مدى الحياة وغرامات بمئات الآلاف من اليوروهات.
تناقضات السلطات اليونانية
نظّم عدد من الحقوقيين والنشطاء حملة (فري بيلوس 9 Free Pylos 9) لدعم المصريين التسعة الذين نجوا من غرق السفينة والمقرر محاكمتهم في 21 مايو الجاري. وأشارت الحملة في بيان لها، حصلت زاوية ثالثة على نسخة منه، إلى أنّ السلطات اليونانيّة تحاول التستّر على أحداث هذه الكارثة البحريّة المأساويّة في التاريخ الأوروبّيّ الحديث، من خلال محاكمة الناجين.
وأوضحت الحملة أنّ التحقيقات الواسعة الّتي أجرتها منظّمات المجتمع المدنيّ ووسائل الإعلام المحلّيّة والدوليّة، كذلك مكتب أمين المظالم في الاتّحاد الأوروبّيّ، ومكتب حقوق الإنسان في فرونتكس (وكالة حماية الحدود الأوروبّيّة التابعة للاتّحاد الأوروبّيّ)، أظهرت التناقضات في رواية السلطات اليونانيّة للأحداث ومسؤوليّتها الواضحة في هذه المأساة.
وأكّدت الحملة أنّ خفر السواحل اليونانيّ كان على علم بحالة الاستغاثة الّتي كانت فيها سفينة “أدريانا” لكنّه تجاهل التزامه القانونيّ بإنقاذ الركّاب، وانتهى الأمر بمحاولة سحب السفينة خارج منطقة مسؤوليّتهم، ممّا أدّى إلى انقلابها، وموت أكثر من 650 شخصًا.
وأشارت الحملة إلى أنّ سلطات التحقيق اليونانيّة رفضت مرارًا طلبات محامي الدفاع عن “بيلوس 9” لإجراء تحقيق أكثر شمولًا في الأدلّة المتاحة الهامّة، والّتي يمكن أن تبرّئ الناجين التسعة، وتسلّط الضوء على الجناة الحقيقيّين لهذه المأساة.
وفقًا لشهادات متداولة، أبحر المركب وعلى متنه نحو 750 مهاجرًا غير شرعي من ساحل ليبيا قرب مدينة طبرق قبل خمسة أيام من الحادثة. دفع كل فرد 4500 دولار أميركي للمهربين. أثناء الرحلة، فقدت السفينة الإحداثيات الصحيحة، مما أدى إلى ضياعها في البحر المتوسط ونفاد إمدادات المياه والطعام، مما تسبب في وفاة عدد من الطلاب الباكستانيين وقبطان المركب. ووفق تحقيق أجراه العربي باستخدام المصادر المفتوحة وخرائط المسارات الملاحية، فإن السلطات اليونانية تقاعست عن إنقاذ المهاجرين بعد أن تلقت استغاثتهم، ثم بدأت في تقديم المساعدة بحلول منتصف اليوم التالي، عبر سفينة لخفر السواحل وحيدة، قامت بسحب القارب ليؤدي ذلك إلى إغراقه كاملًا بمن على متنه. وقد وثقت تحقيقات منفصلة أجرتها المجموعة المستقلة “سولومون”، ومنصة التحقيق متعددة التخصصات “فورنسيس”، و“نيويورك تايمز” و“دير شبيغل” و“إل بايييس” و“لايتهاوس ريبورتس”، و“واشنطن بوست”، مزاعم مماثلة. |
المصريون كبش فداء
ترى المحامية فيكي أجليدو – أحد أعضاء هيئة الدفاع عن المصريين التسعة-؛ أن حادث غرق مركب “أدريانا” لم يكن حادثًا عرضيًا، بينما كان قتلًا متعمدًا ومنظمًا من قبل الدولة اليونانية نتيجة للسياسات المسماة بإعادة الدفع التي تتبعها الدولة منذ سنوات في جزر بحر إيجه.
تعني سياسات عدم الدفع، إجراءات وسياسات تنفذها سلطات السواحل في بعض دول الاتحاد الأوروبي مثل اليونان، وتهدف إلى منع المهاجرين غير الشرعيين من دخول البلاد وإجبارهم على العودة من البلدان التي وفدوا منها، ويتنافى ذلك مع المعايير الدولية لحقوق الإنسانية التي توصي باحترام حقوق المهاجرين.
أوضحت المحامية فيكي أجليدو في حديثها مع زاوية ثالثة أن ‘الدولة اليونانية قررت إخراج الأشخاص الذين كانوا على متن السفينة من أراضيها بأي ثمن، ثم حاولت التستر على ذلك، ما دفع الحكومة إلى اتهام المصريين التسعة الناجين دون أي دليل موثوق.
تابعت: “لقد أغلقت السلطات القضائية التحقيق بشكل موجز، دون اتخاذ أي إجراء بعد الأيام الـ15 الأولى، ورفضت – رغم عدم وجود سبب على الإطلاق- جميع الطلبات التي قدمها محامو الدفاع لجمع المزيد من الأدلة. والآن، تستعد نفس السلطات لإدانة المصريين بشكل موجز، حتى تتمكن من مواصلة سياساتها القاتلة بمباركة أوروبا”.
وبحسب أحد أعضاء هيئة الدفاع الذين تواصلت معهم زاوية ثالثة، فإن التهم الموجهّة إلى المصريين التسعة تشمل: “التنظيم الإجرامي، والنقل غير القانوني للأجانب الذين لا يحق لهم دخول البلاد بطريقة قد تؤدي إلى خطر على الشخص ونتائج مميتة، والتسبب في غرق سفينة بطريقة قد تؤدي إلى الموت”، وقد وضعت تلك التهم خاصة الأخيرتين منهم، الناجين المتهمين في القضية في ظروف مشددة بسبب الوفيات، ما أخضعهم للحبس الاحتياطي قرابة عام، منذ 15 يونيو 2023.
تستطرد “أجليدو”: بسبب عدم وجود أي أدلة ضد التسعة مصريين والتحقيق المحدود، قمنا كدفاع بتقديم طلبات مختلفة خلال مرحلة التحقيق وكذلك مذكرة عندما اكتمل التحقيق، لطلب استمراره، لكنها رُفضت، واعترضنا على الأخطاء الإجرائية، مشيرة إلى أن الحكومة المصرية اكتفت فقط بتقديم السجلات الجنائية التسعة مدانين من مواطنيها.
وكشفت عضو هيئة الدفاع عن حجم الانتهاكات التي تعرّض لها المحتجزون في اليونان. تقول: “كانت هناك انتهاكات متنوعة تتعلق بجمع الأدلة والرأي الخبير حول غرق السفينة وترجمة الوثائق الأساسية. المشكلة الأساسية في رأيي أن المحاكم اليونانية ليس لديها اختصاص في هذه القضية”. مؤكدة أن المصريين التسعة لا يجب محاكمتهم إطلاقا، فهم ركاب عاديون نُقِلُوا مثل البقية، دفعوا أموالًا للمهربين، وانتظروا في ليبيا مع بقية الأشخاص، ثم سافروا مثل الجميع.
خارج الدعم من سلطة القاهرة
عن محاولات دعم المصريين المتهمين في السجون اليونانية، تقول نفلي بيلا فيلا تروفا – إحدى مؤسسات حملة “بيلوس 9” التضامنية مع المتهمين المصريين-، إنهم: “أطلقوا حملة لجمع التبرعات بهدف جمع الأموال ودعم المتهمين، إذ توجه جزء من الأموال المجمعة إلى نفقات المتهمين، وكذلك إرسال الكتب والملابس ومنتجات النظافة حسب احتياجاتهم، فيما توجه باقي الأموال لدعم الدفاع القانوني للمتهمين أمام المحكمة الجنائية اليونانية”.
وتابعت: “بشكل عام، تهدف الحملة إلى دعم المتهمين من خلال زيادة الوعي حول قضيتهم والاتهامات الموجهة إليهم، وهي للأسف ليست حالة معزولة. المتهمون التسعة هم من بين أكثر من 2000 مهاجر محتجزين حاليًا في اليونان بعد اتهامهم أو إدانتهم كـ مهربين“، مشيرة إلى أن هناك نمط مقلق في اليونان يتمثل في إدانة المهاجرين بشكل غير عادل بجرائم التهريب، استنادًا إلى أدلة محدودة ومشكوك فيها غالبًا، ويقضي الأشخاص المدانون بـ “التهريب” أو “تسهيل الدخول غير القانوني للمهاجرين” حاليًا أطول فترات السجن في السجون اليونانية مقارنة بجرائم أخرى.
توضح “تروفا” في تصريحاتها إلى زاوية ثالثة أن تجريم المهاجرين غير الشرعيين غالبًا ما يكون بشكل خفي، وتُسكت أصواتهم بالاحتجاز وفترات السجن الطويلة، ويسمح هذا للسلطات في دول الاتحاد الأوروبي بانتهاك حقوقهم بشكل أكبر.
“وفي المقابل، ذكرت ماريون بوشيتيل – إحدى مؤسسات الحملة- أن ‘السلطة المصرية لم تقدم دعمًا كافيًا للمتهمين المصريين في السجون اليونانية، حيث تمت زيارتهم مرة واحدة فقط، ولم يُقَدَّم دعمًا ملموسًا منذ ذلك الحين’. مضيفة: بالنظر إلى أن المتهمين كانوا يفرون من مصر طلبًا للجوء في أوروبا، فليس من المستغرب عدم تلقيهم دعمًا من حكومتهم عندما واجهوا اتهامات في الخارج. موضحة أن هذا هو الحال بالنسبة لطالبي اللجوء في الغالب، ما يجعل التضامن الدولي معهم أكثر أهمية.
وأشارت “بوشيتيل” في حديثها معنا إلى أن معاملة المهاجرين والكوارث الإنسانية التي تتكشف في البحر الأبيض المتوسط هي نتائج مباشرة لسياسات الاتحاد الأوروبي الهادفة إلى إيقاف وردع المهاجرين من الوصول إلى أوروبا مهما كان الثمن، موضحة أنه على مدى السنوات الأربع الماضية، زاد خفر السواحل اليوناني من ممارساته المتمثلة في الدفع الممنهج في البحر، ما أدى إلى المزيد من العنف والوفيات والاختفاءات. ونتيجة لذلك، يحاول المزيد من المهاجرين العبور مباشرة إلى إيطاليا، ما يزيد المسافة، ويعرضهم حيواتهم لأخطار جمة على طول هذه الطرق.
وتابعت: “ممارسات خفر السواحل اليوناني غير القانونية، والتي تهدد الحياة كجزء من عملياته على الحدود البحرية ليست جديدة، وقد أدت بالفعل إلى إدانات متكررة لليونان من قبل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. حاليًا، تم تقديم ما لا يقل عن 32 قضية تتعلق بثماني عمليات دفع إلى اليونان وهي قيد الانتظار لاتخاذ قرار أمام المحكمة نفسها”، مشيرة إلى أن مأساة “بيلوس” تظهر هنا كحالة أخرى من سلسلة طويلة من عدم الإنقاذ وجرائم البحر.
وطالبت حملة (بيلوس 9) بتبرئة الناجين التسعة فورًا من جميع التهم، وإطلاق سراحهم من السجن وتقديم الدعم المناسب لهم كـ ناجين من حادث غرق السفينة، وإجراء تحقيق شامل ومستقل في المتسبب الحقيقي لغرق المركب، إلى جانب إنهاء العنف المنهجي والقاتل على الحدود فورًا.
ردود فعل دولية ومحلية
في 16 يونيو من عام 2023، أدلت وكالة حرس الحدود الأوروبية “فرونتكس”، ببيان أولي قالت فيه إن “السلطات اليونانية فشلت في الإعلان عن عملية البحث والإنقاذ ونشر عدد كاف من السفن في الوقت المناسب لإنقاذ المهاجرين”.
واستنكرت منظمتا “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش” ما حدث، وأشارتا إلى أن التحقيقات الرسمية “لم تحرز تقدما ذا مغزى يُذكر في المزاعم ذات المصداقية بأن أفعال خفر السواحل اليوناني وتقصيره ساهمت في غرق السفينة والخسائر في الأرواح”. فيما أجرت المنظمتان مقابلات مع 21 ناجيًا، وخمسة من أقارب خمسة أشخاص ما زالوا مفقودين، وممثلين عن خفر السواحل اليوناني، والشرطة اليونانية، والمنظمات غير الحكومية، والأمم المتحدة، والوكالات والمنظمات الدولية.
ووجدت المنظمتان أنه في الساعات الـ 15 بين تلقي السلطات اليونانية الإنذار الأول أن “أدريانا” كانت في منطقة البحث والإنقاذ التابعة لها، وعندما انقلب بمن فيه، فشلت هذه السلطات في تعبئة الموارد المناسبة للإنقاذ. وكانت السلطات على دراية واضحة بمؤشرات الاستغاثة (مثل الاكتظاظ وعدم كفاية الطعام والماء، على متن أدريانا)، وقال الناجون إنها كانت على علم بوجود جثث على متن السفينة وطلبات الإنقاذ. كما تتحدى شهادات الناجين ادعاء السلطات بأن الأشخاص على متن أدريانا لم يرغبوا في إنقاذهم، وهو ما لم يكن ليعفي خفر السواحل اليوناني من التزامه باتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان السلامة في البحر.
بينما ينتفض مجموعات من المدافعين عن حقوق الإنسان في أوروبا للتضامن مع المصريين التسعة، لم تصدر السلطات المصرية سوى بيانات قليلة بشأن الحادث. عبّرت وزيرة الهجرة المصرية، سها جندي، عن تعازيها لأسر الضحايا، ودعت الشباب المصري إلى تجنب رحلات الموت. وأصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا تؤكد فيه متابعة الوضع عن كثب عبر سفارتها في أثينا، دون الإعلان عن إرسال فريق للدفاع عن مواطنيها المتهمين.