*First Published on MadaMasr
مركب صيد مصرية، يقودها مهاجرون بلا خبرة، تغادر الشاطئ الشرقي لليبيا، لتفقد طريقها في البحر بعد أقل من يوم بعد إبحارها.
المئات كانوا فوق سطحها. لكن أغلب المهاجرين الذين تجاوز عددهم 750 كانوا محبوسين بالأسفل، داخل «الثلاجة». مع انطلاقها، تحول قارب الصيد إلى فقاعة منعزلة عن كافة أطر المسؤولية الرسمية وغير الرسمية.. فقاعة لا أحد يرغب في لمسها. المهربون تركوا الأمر في أيادي مجموعة من المسافرين. السلطات اليونانية حاولت قدر الإمكان ألا تتورط. مجموعة من السفن التجارية مرت بها، لكن دون تقديم الكثير من المساعدة.
سريعًا، نفدت مؤونة الرحلة. يحتاج الشخص العادي إلى لتر مياه على الأقل كل يوم كي يبقى على قيد الحياة. يعني هذا أربعة لترات من المياه لرحلة تستغرق أربعة أيام، أي حوالي ثلاثة آلاف لتر لكل القارب. لكن، بحسب شهادة أحد الناجين السوريين، لم يُسمح لهم سوى بلتر واحد لكل الرحلة. لا حقائب كذلك. السبب «عشان ما تاخدش مكان».
توسلوا بعض الماء من قوارب تجارية تمر بالقرب منهم. أرسل لهم البعض مددًا، لكن معركة اندلعت حول توزيعها. بدأ البعض في شرب بولهم. سقط آخرون موتى. بعدها، وكأن كل هذه الدراما ليست كافية، تعطل محرك القارب عدة مرات. بعد ساعات، وأمام أعين حرس السواحل اليوناني، انقلب القارب. لم يستغرق الأمر سوى 10-15 دقيقة على أقصى تقدير. انفجرت الفقاعة واختفى القارب في عمق المتوسط. في جنون اللحظة، حاول حرس السواحل اليوناني إنقاذ من يمكن إنقاذه من المهاجرين قبل اختفائهم في ظلام البحر. خلال دقائق، مات المئات في واحدة من أسوأ الحوادث من نوعها طوال أعوام.
الفقاعة التي أحاطت بالمهاجرين عزلتهم وأجبرتهم، دون استعداد، على تولي مسؤولية حياتهم، ثم في النهاية موتهم، لم تكن من صنعهم. هناك آخرون خارجها يسمحون لهذا الكابوس أن يتحقق: مهربون مشاهير يجذبون الحالمين الطموحين إلى سجون «المخازن»، صيادون مأزومون، عائلة من أمراء الحرب في ليبيا في حاجة إلى الأموال، طائرات دون طيار أوروبية تدعي العمى رغم استثمار مئات الملايين من اليوروهات في تمكينها من مراقبة البحر، قوات حرس حدود سيئة السمعة، مسؤولون مصريون راغبون في مزيد من الأموال، واتحاد أوروبي مصمم على البقاء منعزلًا.
طوال الأسبوع الماضي، تَشارك «مدى مصر» مع «OmniaTV»، المنصة الصحفية اليونانية المستقلة، في محاولة لإعادة بناء حكاية مأساة تشكلت ببطء، وفهم أبعاد مسؤولية تتمد عبر البحر وتتجاوزه إلى مدى أبعد بكثير.
بالنسبة لعين غير مُدربة، تبدو كل قوارب الصيد متماثلة. لكن لمن على دراية بصناعة السفن في مصر، لا يوجد الكثير من الشك أن قارب الصيد هذا صُنع في مدينة رشيد على ساحل المتوسط بالقرب من الإسكندرية. مصدر يعمل في شركة السمبسكاني لبناء السفن واليخوت، أحد أكبر الشركات المصرية العاملة في المجال، تعرف على القارب فور اطلاعه على صوره. المصدر الذي يعمل في مدينة دمياط، المعروفة كذلك بإنتاجها لقوارب الصيد، يقول إن الفروق بين القوارب المصنوعة في رشيد ومثيلاتها في دمياط -مثلًا- واضحة للغاية.
يؤكد السيد أحمد حميدة، شيخ الصيادين بمدينة رشيد، أن القارب الغارق صُنع في رشيد. أحد الصيادين من رشيد، والذي يعمل كذلك في مجال صناعة وصيانة السفن، أشار إلى أن القارب الغارق يتوافق مع «قالب» القوارب لديهم في رشيد. «سُمك الحديد وشكل الصاج وموديل المركب، معروف عند أهالي رشيد». يقول: «مدينة رشيد بتتميز بتصنيع المركب بشكل الغرف، موديل المركب، والحديد والصاج بالشكل ده».
صيّاد ثالث شارك صورًا لقاربين، أحدهما من دمياط والآخر من رشيد، لتوضيح الفوارق الطفيفة بين الأسلوبين. رغم أنهما تقريبًا في الحجم ذاته، والتي تختلف عن مثيلاتها في السويس أو بورسعيد، إلا أن مقدمة قارب رشيد تكون أكثر استدارة من قارب دمياط، بينما تكون النوافذ فيها أكثر ناحية المؤخرة، وحجمها أصغر.
لهذا يتناقل الجميع في رشيد حديثًا عن القارب الذي صُنع لديهم وانتهى متورطًا في مأساة الأسبوع الماضي، بحسب اثنين من الصيادين هناك.
تتفق المصادر الثلاثة من صيادي رشيد على أن قواربهم تُباع عادة إلى ليبيين عبر وسطاء من صيادين مصريين يعيشون في ليبيا. السبب الرسمي للبيع يكون لأغراض الصيد، لكن الجميع يعرف، بحسب المصادر، أن هذه القوارب سينتهي بها الحال في نقل مهاجرين عبر المتوسط.
على ما يبدو، لم تكن الحادثة الأخيرة الأولى لقارب من رشيد. يشير تحليل بصري أولي قام به «مدى مصر» إلى أن القارب الذي غرق في مياه مالطا في 2015، وتسبب في وفاة أكثر من ألف مهاجر، يتشابه كثيرًا في أبعاده وشكله وألوانه مع القوارب الأخرى من رشيد.
قارب حادثة الغرق أمام مالطا في 2015 – المصدر: ويكيميديا
يختلف سعر القوارب حسب حالتها. القوارب الأحدث قد يصل سعرها إلى 3-4 ملايين جنيه مصري (حوالي 100-115 ألف دولار). لكن الأقدم يمكن الحصول عليها بسعر أقل. مصدران قدّرا ثمن القارب الغارق بحوالي 1.5-2 مليون جنيه في حالتها هذه.
يضطر عدد من الصيادين وأصحاب القوارب إلى بيعها بسبب ارتفاع تكاليف صيانتها وتشغيلها، بالإضافة إلى تداعيات حظر الصيد في البحيرات المختلفة في مصر بسبب نضوب أسماكها، والقيود الناتجة عن منح الشركات التابعة للقوات المسلحة معاملة تفضيلية أكبر في مناطق الصيد.
لكن هذه القوارب، حتى بعد بيعها، قد تواجه في انتقالها من الصيد إلى التهريب بعض العقبات.
تُشرف ثلاث جهات على إصدار تراخيص قوارب الصيد وتصاريحها إبحارها. إحداها الهيئة المصرية لسلامة الملاحة البحرية، والتي تحدد متطلبات استخراج الترخيص، ومن بينها نظام تحديد مواقع، يقوم بمشاركة موقعها مع السلطات البحرية والسفن الأخرى. تُمنح التراخيص لمدة عام واحد، ولا يتم تجديدها في حالة وجود مخالفات. هذه المخالفات قد تتضمن إطفاء نظام تحديد المواقع أثناء الإبحار، أو الخروج إلى المياه الدولية دون تراخيص صيد وتصاريح إبحار سارية. تصدر تراخيص الصيد من جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية، بينما تتولى قوات حرس الحدود مسؤولية إصدار تصاريح الإبحار. كل تصريح يصدر لمدة ثلاثة أشهر فقط.
لكن على أرض الواقع، هناك الكثير من التساهل حول حركة مراكب الصيد من المدن الساحلية الصغيرة مثل رشيد، كما يشرح شيخ الصيادين في إحدى مدن قناة السويس، التي تشهد في المعتاد تشديدًا أمنيًا يمنع خروج مثل هذه القوارب دون ترخيص وتصريح سارٍ. لكن في مدن مثل رشيد، لا أحد يهتم.
هذا التساهل يجعل خروج السفن والقوارب إلى البحر دون تدقيق كبير. حتى القوارب التي تم تكهينها (أي خروجها من الخدمة)، والتي تُستخدم عادةً في تهريب البشر عبر البحر، يتم سحبها خطوة بخطوة بعيدًا عن الميناء حتى تختفي عن الأنظار دون ملاحظة. حتى إذا لاحظها أحدهم، فإن رشاوى تُدفع لبعض أفراد الأمن تمنع حدوث مشاكل، بحسب أحد الصيادين.
بعد تجاوز هذه العقبات، تغادر القوارب السواحل المصرية تجاه ليبيا. في المعتاد، يكون على كل قارب فردان، أحدهما للملاحة والآخر لصيانة المحرك، بحسب اثنين من صيادي رشيد. هناك، يقومون بتسليمها إلى الوسيط.
هذا واضح بالنسبة إلى القارب الغارق. لكن ما زلنا نجهل موعد مغادرته مصر إلى ليبيا. بحسب مصدر مقرب من المخابرات الليبية يعيش في شرق ليبيا، كان القارب موجودًا في طبرق لبعض الوقت قبل رحلته الأخيرة.
يوضح المصدر أنه «عادة ما يجري استقدام هذه المراكب للعمل في الصيد لمدة شهر أو شهرين ثم تستخدم لنقل المهاجرين إلى أوروبا».
إذًا، وبعد انتهاء رحلات صيدها، استقر القارب عند ميناء على بعد 15 كيلومتر شرق مدينة طبرق الليبية.
كان هذا قبل أربعة أيام على الأقل من يوم بدء الرحلة المشؤومة، بحسب ابن عم أحد المهاجرين السوريين، واللذين كانا على تواصل مستمر طوال هذا الوقت. على مدار أربعة أيام، توالى نقل الركاب إليها. وفجر الجمعة 9 يونيو الجاري، انطلق القارب حاملًا أكثر من 700 شخص، أي ما يزيد على ضعفي سعته المعتادة، بحسب المصدر الليبي، في محاولة مميتة لعبور البحر إلى شواطئ إيطاليا، حيث يقبع حلمهم.
جاء المهاجرون بشكل أساسي من مصر وسوريا وباكستان إلى جانب بعض الفلسطينيين.
تسببت الخطوات التي قام بها الاتحاد الأوروبي -مثل اتفاقية الهجرة مع تركيا- لتشديد المرور عبر حدودها في إغلاق مسارات الهجرة الأسرع والأكثر أمانًا. دفع هذا المهاجرين إلى اللجوء إلى مسارات أكثر خطورة، مغامرين بحياتهم وحياة ذويهم عبر مياه البحر من شواطئ شمال إفريقيا.
أحد الناجين الباكستانيين، ووالد آخر، يصفان نفس المسار إلى ليبيا: دبي ثم مصر، ليصلوا في النهاية إلى ليبيا. الناجي الباكستاني، والذي فقد أسرته كلها في المأساة، قال في إفادته الرسمية أمام سلطات التحقيق اليونانية أنهم انتقلوا برًا من مصر إلى ليبيا عبر عدة محطات في رحلة استغرقت حوالي شهر حتى وصلوا إلى طبرق، حسبما نقلت صحيفة «كاثيميريني» اليونانية. الباكستاني الآخر، بحسب والده، سافر من مصر إلى ليبيا جوًا.
مسار آخر تقدمه شركة الخطوط الجوية السورية «أجنحة الشام»، والتي تدير رحلات إلى مدينة بنغازي، شرقي ليبيا، تقع تحت سيطرة خليفة حفتر، قائد ما يُعرف بـ«الجيش الوطني الليبي»، وأبنائه. هذا المسار يستخدمه في المعتاد السوريون إلى جانب جنسيات أخرى، كثير منهم من بنجلاديش، بحسب تقرير نشرته صحيفة «مالطا توداي» نصف الأسبوعية في أبريل الماضي نقلًا عن تقارير استخباراتية مالطية وأوروبية. لكن السوريين والبنجاليين يسافرون في رحلات منفصلة. عند وصولهم إلى مطار بنغازي، تُسجل أسماؤهم يدويًا في دفتر، ثم يدخلون المدينة. بعدها يبدأون الاستعداد لرحلة عبور البحر. بسبب نشاطها في نقل المهاجرين، وُضعت شركة «أجنحة الشام» على القائمة السوداء للاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2021. لكنها رُفعت منها في يوليو الماضي، في خطوة يتساءل حول صوابها بعض المسؤولين الأوروبيين.
لكل هؤلاء، ربما تكون مصر إحدى محطات الطريق. لكن الأمر يختلف بالنسبة للمصريين.
بعد التشديد الأمني المصري على انطلاق قوارب المهاجرين من شواطئها في الأعوام الماضية، نتيجة لاتفاقات مكافحة الهجرة بين مصر والاتحاد الأوروبي حصلت مصر بموجبها على مئات الملايين من الدولارات، أصبحت ليبيا مركزًا رئيسيًا لانطلاق هذه القوارب.
عشرات المصادر من مهاجرين وعائلاتهم، وفاعلين مختلفين في شبكات التهريب في كل من مصر وليبيا، ومسؤولين على جانبي المتوسط، تحدث معظمهم بشرط عدم الكشف عن هويتهم خوفًا من أي تبعات، رسموا صورة للطريقة التي تعمل بها رحلات التهريب هذه.
تُدار معظم هذه الرحلات في المعتاد عبر شبكتين منفصلتين على كل جانب. تمتلئ شبكات التواصل الاجتماعي بمقاولين ووسطاء لكل خطوة على الطريق.
الأمر أسهل بكثير مما هو متوقع. بمجرد العثور على وسيط، يخبرك بموعد مغادرة الميكروباص إلى ليبيا مقابل ملبغ قد لا يتجاوز ألف جنيه، وفي بعض الأحيان يساعدك على عبور الحدود دون مقابل: يمكنك الدفع لاحقًا.. لا مشكلة.
يشارك العديد من المهاجرين وعائلاتهم، وأغلبهم من قرى صغيرة، نفس الحكاية. يختفي أبناؤهم أو إخوتهم فجأة. بعضهم يقول إنه مسافر للقاهرة للبحث عن عمل. بعد أيام، يتصلون بعائلاتهم أو يتصل بهم أحد المهربين، لإخبارهم بسفرهم إلى ليبيا.
محمد، شقيق أيمن عبد العزيز، أحد ركاب القارب المفقودين، يقول إن أخاه «سافر دون مقدمات». الأمر ذاته بالنسبة لمحمد خالد الدسوقي، طفل عمره 14 عامًا، والذي يقول والده إنه اختفى فجأة في ليلة خميس.
هذا النمط يشير إلى استراتيجية سائدة، بحسب أميرة أبو جميل، إحدى مسؤولي صفحة للمصريين في إيطاليا على فيسبوك، والتي كانت على تواصل مستمر مع المهاجرين وعائلاتهم. الاستراتيجية تهدف لأن يكون السفر إلى ليبيا بأكبر قدر ممكن من السهولة. مسألة المقابل المادي يمكن حلها فيما بعد.
يبدأ الطريق من مصر إلى ليبيا عادة في ميكروباص. يشدد مصدران يعملان في تسهيل رحلات سفر إلى ليبيا في محافظتين بصعيد مصر على الدور المحوري الذي يلعبه سائقو وأصحاب هذه الميكروباصات في هذه الرحلات.
يوضح مسؤول حكومي مصري أن معظم هؤلاء السائقين كانوا يعملون في نقل الركاب بين مصر وليبيا حين كان هذا مسموحًا قبل 2006. طوال التسعينيات والأعوام الأولى من الألفينيات، سافر ملايين المصريين إلى ليبيا بحثًا عن عمل. لكن في 2004، بدأت ليبيا تدريجيًا في التضييق على فيض العمال المتجه إليها. وفي 2006، أصبح الحصول على تأشيرة ليبية أكثر صعوبة.
منذ ذلك الحين، كما يلاحظ أحد المهربين، بدأ سائقو الميكروباصات في استخدام شبكات معارفهم الممتدة على الحدود المصرية الليبية من السلوم شمالًا عبر بحر الرمال الأعظم جنوبًا.
يسلم السائق المهاجرين إلى مهرب يكون عادة من أحد القبائل الليبية. يقود المهرب المهاجرين عبر هضبة السلوم على أقدامهم، عادةً في الليل، لتجنب أعين رجال الأمن المصريين في نقاط التفتيش هناك. أحيانًا، تُدفع رشاوى إلى بعض رجال الأمن لتسهيل الأمور.
بمجرد وصولهم إلى ليبيا، يبدأ عالم مختلف تمامًا. يُقاد المهاجرون الراغبون في عبور البحر إلى ما يُعرف بـ«المخزن»، حيث ينتظرون حتى موعد إبحار القارب القادم.
يتفق جميع المهاجرين وعائلاتهم على الأوضاع القاسية التي يعانون منها في هذه المخازن. تمامًا مثل السجن، سجن بشع. لقيمات قليلة وبعض الماء. ولا يُسمح لأحد بالخروج.
الآن حان وقت الدفع. أصبح لدى المهربين كل النفوذ الذي يحتاجونه بما أنهم يحتجزون المهاجرين كأنهم «أسرى». يبدأ المهربون في التواصل مع أهالي المهاجرين، يطلبون المال مقابل السماح لذويهم بالصعود على متن المركب. كل العائلات تذكر المقدار نفسه من المال: 140 ألف جنيه (حوالي 4500 دولار). إذا أبدت العائلة أي تردد، لا يتورع المهربون عن تهديدهم بقتل ذويهم. الآن «دفع المبلغ لم يكن فقط مقابل سفره بل مقابل حياته أصلًا»، بحسب تعبير والد محمد خالد الدسوقي.
يشير تقرير نشره «مدى مصر» بداية يونيو الجاري إلى تورط رفيع المستوى من ضباط «الجيش الوطني الحر»، بإشراف من أبناء حفتر، في إدارة وتسهيل أعمال شبكات التهريب في شرق ليبيا. الدافع المباشر هو العائدات المادية الوفيرة. قارب واحد يحمل 750 مهاجرًا يجني حوالي 3.5 مليون دولار. وهناك دافع سياسي. كما هو الحال بالنسبة لمصر، يحاول اللاعبون السياسيون في ليبيا استخدام مسألة الهجرة كورقة تفاوض مع المسؤولين الأوروبيين، وهؤلاء الأخيرين لا هم لهم سوى التحكم في تدفق المهاجرين إلى أوروبا.
المنطقة التي غادر منها قارب الصيد بالقرب من طبرق شهدت كذلك تنافسًا بين لواء «طارق بن زياد» سيئ السمعة التابع لـ«الجيش الوطني الليبي» وبين فاعلين في شبكات تهريب المهاجرين من قبائل ليبية مختلفة. وفي إطار سعيه لتأمين أرباحه وكسر شوكة المجموعات القبلية الأخرى، نشر لواء «طارق بن زياد» وحدة جديدة للتحكم في عمليات التهريب، بحسب المصدر الليبي المقرب من الاستخبارات الليبية.
في النهاية، تسارع العائلات لبيع قطعة أرض زراعية أو الاقتراض، لتدفع الأموال إلى مندوب عن المهرب. أحيانًا تتفاوض العائلات على قدر أقل من الأموال لإطلاق سراح أبنائهم وإعادتهم لمصر.
هذا هو ما حدث مع مصطفى محمد، الذي سافر بصحبة ابن خالته، محمود الشريف، ومجموعة أخرى من أصدقائهم من قريتهم «أبراش» في محافظة الشرقية، إلى مدينة مرسى مطروح، القريبة من الحدود المصرية الليبية. تَنقّلهم كان بالتنسيق مع مهرب ليبي يُدعى أبو سلطان عبر تطبيق واتس آب، طبقًا لحكاية مصطفى. وجههم أبو سلطان إلى مصنع طوب وأمرهم بالانتظار هناك، حيث توافدت مجموعات أخرى من المهاجرين. قضوا ليلتهم، وفي اليوم التالي نقلهم ميكروباص وسلمهم إلى مجموعة من قبيلة أولاد علي الممتدة على جانبي الحدود المصرية الليبية. بعدها، سيرًا على الأقدام، قادهم طفل لا يتجاوز عمره 16 عامًا لعبور الحدود.
في النهاية، وصلوا إلى أحد المخازن. تواصل المهربون مع عائلاتهم لدفع الأموال. تمكنت عائلة محمود من جمعها ودفعها. لكن عائلة مصطفى لم تتمكن من هذا. خلال تواصلهم مع أبو سلطان عبر تطبيق ماسنجر، حاولت عائلة مصطفى التفاوض على مقابل لإطلاق سراحه وإعادته. أصر أبو سلطان في البداية على 50 ألف جنيه. لكن حين عجزت العائلة عن الدفع، قام بتخفيض المبلغ إلى 30 ألف جنيه. «ننزلوا تمام»، كتب أبو سلطان ، «يومين وينزل مصر».
يستمر اسم أبو سلطان في الظهور في مختلف الشهادات. أصبح الاسم شهيرًا في عالم تهريب المهاجرين كأنه امتياز تجاري. مهربون آخرون بدأوا يطلقون على أنفسهم نفس الاسم. وبدأ أبو سلطان في التأكيد على أنه أبو سلطان «الأصلي» لحماية علامته التجارية.
رسالة من أبو سلطان الأصلي
ليلة الخميس، 8 يونيو، أعلن أبو سلطان أسماء المغادرين على متن القارب في اليوم التالي بعدما دُفعت أموالهم، بحسب مصطفى. ابن خالته كان ضمن هؤلاء الذين تحركوا إلى القارب.
بعد ثلاثة أيام من دفع العائلة المبلغ، نُقل مصطفى إلى الحدود المصرية الليبية. عبر إلى الجانب المصري حيث احتجزته الشرطة هناك. وبعد أسبوع من التحقيقات، أُطلق سراحه. عاد مصطفى إلى منزله يوم الاثنين الماضي ليكتشف أن القارب الذي يحمل ابن خاله غرق، وما زال محمود مفقودًا.
دفع آلاف الدولارات إلى المهربين ليس هو الطريق الوحيد للصعود إلى القارب. طريق آخر، استثنائي، يكون عبر المساعدة في الرحلة نفسها. يشرح اثنان من المهربين من الجانبين المصري والليبي أنه لا أحد من المهربين يغامر بطاقمه في رحلات خطرة كهذه. بديلًا عن هذا، يختار المهربون مجموعة من المهاجرين الذين لم تتمكن عائلاتهم من الدفع لتدريبهم على أساسيات الملاحة البحرية.
مختلف المصادر من المهاجرين أكدت أن هذا معتاد. عند سؤاله عن مدى أمان رحلاته، يؤكد الحاج مختار أبو عمر، أحد المهربين الليبيين، الذي يمتلك عددًا من قوارب الصيد، أن «واحد من اللي مسافرين معاكم هو اللي هيسوق». لكنه يستدرك: «كل شيء تمام من احتياجات السلامة موجودة، هتشوفه بيتدرب قصادك».
كلٌ من إبراهيم حجي، الناشط والباحث في قضايا الهجرة المقيم في إيطاليا، وعلاء عراقي، الذي يعمل في مجموعة إنقاذ، وشارك في عمليات إنقاذ القارب الغارق الأسبوع الماضي، أكدا هذا النمط.
وبناءً على هذا النمط، قد ينتهي الأمر ببعض المهاجرين متهمين بالتواطؤ في عمليات التهريب. حقيقة حجم وطبيعة دورهم قد لا تكون مهمة للسلطات الراغبة في رد فعل سريع بعد مأساة كهذه.
قد يفسر هذا التناقض بين إلقاء السلطات اليونانية القبض على تسعة مصريين واتهامهم بالتورط في التهريب، وما تصر عليه عائلاتهم من كونهم مجرد مهاجرين يحاولون الوصول إلى أوروبا، كما ذكرت عائلات ثلاثة من المصريين المتهمين لـ«مدى مصر».
أبو إياد، قريب أحمد عبد الخالق، أحد المصريين التسعة المتهمين، نفى أي تورط في القضية، قائلًا إن قريبه وصل إلى ليبيا قبل عشرة أيام فقط من إبحار القارب. أشرف جمال، شقيق أحمد جمال، أحد المتهمين، يصر على أنه دفع مقابل رحلة شقيقه الذي سافر إلى ليبيا في رمضان الماضي قبل حوالي ثلاثة أشهر. شقيق أحمد عزت الخضري يحكي القصة ذاتها.
الأمر الواضح أن القارب أبحر بقيادة مهاجرين بلا خبرة. وخلال أقل من يوم، بحسب شهادة أحد الناجين السوريين التي تحقق «مدى مصر» من صحتها، بدأ القارب في الابتعاد عن مساره. ناجٍ سوري آخر ذكر في إفادته الرسمية أنه وركاب آخرين كانوا مقتنعين أن «الكابتن تاه عن طريقه».
في النهاية، نفدت مياه الشرب على القارب. ساد الذعر.
حوالي الساعة 9:30 من صباح الثلاثاء الأسود، تلقت الناشطة نوال صوفي، والتي تقيم في إيطاليا الآن، مكالمة استغاثة من بعض المهاجرين على متن القارب، أخبروها أن مخزونهم من مياه الشرب قد نفد.
استنجد بعض المصريين بقارب تجاري كان قريبًا، وطلبوا منهم مياهًا ومؤونة، بحسب الإفادة الرسمية لناجٍ باكستاني. «المصريون استولوا عليها [المياه والمؤونة] واندلع قتال بينهم مع ركاب آخرين قبل أن يوافقوا على مشاركة المياه»، يقول. أحد الناجين المصريين يخمن أن هذا قد يكون السبب وراء القبض على ناجٍ مصري آخر يعرفونه، اسمه عبد السلام. «كانوا بيبيعوا للناس ميه تقريبًا»، بحسب روايته.
بين العاشرة والحادية عشرة صباحًا، حددت طائرة دون طيار، تابعة للوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل «فرونتكس»، موقع القارب، بحسب فيديو نشرته الوكالة لاحقًا، ويظهر فيه القارب مستمرًا في إبحاره.
يقول نشطاء، ومنظمات عاملة في مجال البحث عن اللاجئين وإنقاذهم، إنهم أخبروا حرس السواحل اليوناني، ووزارة النقل اليونانية، وسلطات البحث والإنقاذ في كل من اليونان، ومالطا، وإيطاليا، بموقع المركب وعدد المهاجرين الذين يحملهم قبل غرقه بما يقرب من يوم كامل، لكن أي منهم لم يتدخل لإنقاذهم.
من جانبها، تقول السلطات اليونانية، إن المركب رفضت عروضًا متكررة لإنقاذ من عليها. السبب، بحسب المنظمات، هو رغبتهم في الابتعاد عن اليونان، بسبب المعاملة السيئة، وغير القانونية، التي يلقاها المهاجرون هناك.
بحلول الحادية عشر صباحًا، أخبر مركز تنسيق الإنقاذ البحري الإيطالي السلطات اليونانية بما يحدث. بعدها بثلاث ساعات، تواصل حرس السواحل اليوناني مع المركب المأزوم، بحسب ما نقلته الصحافة اليونانية عن المسؤولين هناك، لكنهم لم يبدأوا أي عمليات إنقاذ.
ثلاث ساعات أخرى مرت. الساعة أصبحت الرابعة مساءً، حين تلقى Alarm Phone، وهو خط ساخن يُشرف عليه نشطاء، نداءات استغاثة من المهاجرين المأزومين في البحر المتوسط، ومعلومات حول وضع المركب وموقعه، بعدما تحدثوا إلى بعض ممن كانوا على متنه.
أرسل نشطاء Alarm Phone إيميلًا إلى السلطات اليونانية، و«فرونتيكس FRONTEX»، وهم حرس السواحل التابع للاتحاد الأوروبي، ومكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في اليونان، في تمام الساعة 4:53 مساءً.
في غضون ساعة، نشرت صوفي تسجيل مكالمة تليفونية، مع بعض المهاجرين على متن القارب، حيث أخبروها بوفاة ستة أشخاص على متن القارب، بينما يُسمع في خلفية المكالمة بوضوح أصوات صراخ وذعر. «فيه ناس ماتت من قِلة المية»، يقول أحد المصريين الناجين في فيديو، احتوى شهادته نُشر على فيسبوك.
مع بداية يوم جديد، وبالتحديد عند الساعة 1:40 من صباح الأربعاء 14 يونيو، أخبر أحد المهاجرين على متن المركب، وزارة النقل اليونانية بتعطل أحد محركات القارب. طبقًا للوزارة، اقتربت قوة من حرس السواحل اليوناني، من المركب لتحديد المشكلة. وبحلول الساعة 2:04 صباحًا، أبلغ مسؤول على قارب حرس السواحل الوزارة، أن مركب الصيد «انحرفت إلى اليمين، ثم إلى اليسار بحدة، ثم إلى اليمين مرة أخرى بشكل كبير لدرجة أنها انقلبت».
لم يتضح السبب وراء انقلاب المركب. ما هو واضح، أن المركب توقفت تمامًا عن الحركة بحلول هذا الوقت. بعض الناجين ألمحوا إلى وجود صلة بين محاولة حرس السواحل اليوناني، سحب المركب وبين انقلابها، لكن السلطات اليونانية نفت هذا.
الأكيد أنه «في خلال عشر دقائق إلى ربع ساعة، غرقت المركب تمامًا»، بحسب سجلات غرفة العمليات، «بعض الركاب على سطح المركب سقطوا في البحر». عندها فقط بدأت عملية إنقاذ واسعة النطاق.
مشغل الفيديو
00:00
00:54
لم يتوافر سوى القليل من المواد السمعية والمرئية من رحلة القارب الغارق.
في البداية، تم تسريب مجموعتين من الصور الجوية إلى وسائل الإعلام، تلاها مشهد ليّلي للقارب التقطه شخص ما على متن إحدى سفن خفر السواحل اليوناني المتواجدة وقت الحادث. هذا النقص في المواد المرئية جعل تقييم تصرفات المسؤولين في تلك الليلة لعبة تخمين. وبينما تظل التفاصيل الدقيقة غامضة، فإن تراجع السلطات وتغييرها للسرديات أثار شكوكًا حول مصداقيتها. ادعى حرس السواحل اليوناني أنه لم يكن هناك تسجيل فيديو لعمليتهم، إلا أن التسريبات اللاحقة من التحقيقات الجارية تشير إلى وجود تسجيل بالفعل.
زادت أجهزة المراقبة والرقابة الموجود في بحر إيجه والبحر الأيوني شمال المتوسط بشكل كبير في السنوات الأخيرة. أحد النقاط الأساسية التي تفخر بها السلطات المحلية و«فرونتيكس» هو امتلاك طائرات تقوم بدوريات بطول البحر وصولًا إلى شواطئ شمال إفريقيا.
بينما كان القارب يشق طريقه شمالًا نحو المياه اليونانية، وتزامنًا مع انحرافه عن مساره، كانت هناك ثلاث طائرات تقوم بدوريات بالقرب من أو فوق الموقع الذي يُحتمل أن القارب سلكه خلال رحلته. لكن دون قدرة على تخيل مسار القارب، لا يمكن معرفة ما إذا كانت هذه الطائرات قد رصده بالفعل. ومع ذلك، فوجود الطائرات المستمر في المنطقة المجاورة يثير تساؤلات حول ما إذا كانت السلطات اليونانية على علم بالسفينة قبل الجدول الزمني المُعلن.
الطائرة الأولى التي كان بإمكانها نظريًا رؤية القارب تُسمى «EAGLE1»، وتعمل تحت قيادة «فرونتيكس»، وتراقب بانتظام المنطقة الواقعة بين سيراكوزا والبحر الأيوني.
في 10 يونيو، بعد يوم من إبحار القارب، كانت «SEGUL21»، طائرة دون طيار، تراقب المنطقة، ووصلت إلى أقصى الجنوب باتجاه الساحل الليبي.
كذلك شوهدت طائرة دون طيار من طراز «IAI Heron UC01» تدعم خفر السواحل اليوناني وسلطات أخرى، ولكن تسيطر عليها «فرونتيكس» بشكل مباشر، وهي تراقب البحر الأيوني بشكل متكرر.
تراقب كل من طائرتي «EAGLE1» و«IAI Heron UC01» المثلث بين جزيرة كريت وصقلية وجزيرة كورفو، بشكل يومي، بينما وصلت EAGLE1 أيضًا إلى منطقة SAR اليونانية قبل 48 ساعة من غرق القارب، في مكان أبعد قليلًا شمال موقع الغرق.
على متن رحلة في 12 يونيو، سجّلت طائرة SEGUL21 جزئيًا في منصة «ADSBExchange»، أكبر منصة بيانات الطائرات في العالم، لكن جزءًا رئيسيًا من بياناتها كان مفقودًا. ومع ذلك، بناءً على المواقع المتاحة، يمكن افتراض أنها تحركت في المنطقة الواقعة بين نقاط المواقع هذه، في منطقة كان القارب (الذي كان يُبحر شمالًا وفقًا للشهادات) موجودًا فيها خلال هذا الوقت.
بالنسبة لطائرة «IAI Heron UC01»، ومن أجل تجميع مساراتها، قمنا بدمج البيانات من منصتي «ADSBExchange» و«FlightRadar24»؛ وهي منصة أخرى لبيانات الطائرات.
على الرغم من أن بيانات الطائرة لم تكن كاملة، إلا أنها تُظهر أن الطائرة دون طيار كانت تقوم بالفعل بدوريات حول الموقع الذي غرق فيه القارب قبل الحادث بثلاثة أيام على الأقل، حين كان مستمرًا في حركته بالفعل نحو المياه اليونانية.
في هذه الأثناء، في 13 يونيو، مع بداية تعطل القارب، أُمرت الطائرة دون طيار بالقيام بدوريات في منطقة مختلفة، جنوب جزيرة كريت، بسبب حادثة أخرى، وفقًا لخفر السواحل اليوناني. كما نشرت «فرونتكس» بيانًا تشرح فيه أسباب التغيير في مواقع انتشار الطائرة. «نظرًا لأن طائرة فرونتيكس دون طيار كانت تقوم بدوريات في بحر إيجه في نفس اليوم، عرضت الوكالة تقديم مساعدة إضافية قبل الرحلة المخطط لها والمجدولة. وطلبت السلطات اليونانية من الوكالة إرسال الطائرة دون طيار إلى حادث بحث وإنقاذ آخر جنوب جزيرة كريت حيث يواجه 80 شخصًا الخطر».
مع التغير المستمر في السردية اليونانية الرسمية، لم تتضح حتى الآن الأسباب وراء الطريقة التي تعامل بها حرس السواحل اليونانية مع الحادث. لكن اليونان لديها تاريخ من الترحيل القسري للمهاجرين، حيث يُدفعون إلى خارج الحدود ليصبحوا خارج منطقة اختصاصها القضائي.
العديد من عمليات الترحيل القسري تم توثيقها طوال العقد الماضي في المياه الإقليمية اليونانية أو في منطقة البحث والإنقاذ التابعة لليونان، حيث أصبحت هذه الممارسة أشبه بسياسة غير رسمية لحرس السواحل اليونانية منذ عام 2020.
إحدى تلك العمليات، ربما المثال الأكثر رمزية، والتي تحمل أيضًا أوجه تشابه مذهلة مع الأوصاف المتوافرة للحادثة الأخيرة، هي قضية «فارماكونيسي». كما أن أهميتها تكمن كذلك في أنها واحدة من قضايا قليلة اجتازت كامل المسار القضائي المتاح لضحايا مثل هذه العمليات.
تبحث القضية في حادث وقع في 20 يناير 2014، حين غرق قارب صيد على متنه 27 أفغانيًا وسوريًا وفلسطينيًا قبالة جزيرة «فارماكونيسي» في بحر إيجه، بينما كان خفر السواحل اليوناني يسحبونه. تسبب الغرق في مقتل 11 شخصًا. سارعت الحكومة اليونانية لنفي ارتكاب أي مخالفات من جانب خفر السواحل. في المرحلة الأولى من التحقيق، كان حرس السواحل اليوناني مشتبهًا به، وفي نفس الوقت كان يقوم بإجراء التحقيق.
رُفضت القضية في اليونان مرتين في العام ذاته، بادعاء أن «اليونان لا تقوم بعمليات ترحيل قسري». لكن اليونان تفعل ذلك. وهو ما أقرت به المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي أصدرت في 7 يوليو 2022 حكمًا قضت فيه بأن اليونان مذنبة بانتهاك الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بشأن حالات الترحيل القسري ومعاملة الناجين والإجراءات القضائية.
وعلى الرغم من الحكم التاريخي، ظلت السلطات اليونانية ملتزمة بمواصلة تجنب المساءلة.
قوات من الشرطة وحرس السواحل اليونانية أمام مقري وزارة الشؤون البحرية و«فرونتكس» في بيرايوس خلال مظاهرة أمامهما – المصدر: OmniaTV
في الحادث الأخير، تحركت سلطات حرس السواحل اليوناني والسلطات القضائية بسرعة واعتقلت تسعة من الناجين، جميعهم من مصر، معلنة أنه سيتم اتهامهم بالتهريب وتهم متعددة.
الشهادات الأولية، التي جمعها ضباط حرس السواحل اليوناني الذين كانوا مسؤولين عن التحقيق، كانت -مرة أخرى- نسخًا متطابقة، وفقًا للوثائق التي سُربت إلى صحيفة EFSYN، والتي لم يتهم النجاة فيها حرس السواحل اليوناني بأي تقصير. لكن الأوصاف التفصيلية التي قدمها الشهود في مكتب محقق المحكمة ترسم صورة مختلفة، تتماشى أكثر مع روايات متعددة للناجين نُشرت في وسائل إعلام مختلفة ونشرت على الإنترنت، تفيد بأن القارب انقلب بعد أن ربطته سفينة خفر السواحل.
استغلت مصادر حرس السواحل المجهلة هذا التضارب وبدأوا في التشكيك في صحة شهادات الناجين بدعوى أنهم لم يذكروا هذا في شهاداتهم الأولية.
مع هذا، لا تلقي كل شهادات الناجين باللوم على السلطات اليونانية، أو تقول إنها كانت بالضرورة عملية ترحيل قسري. في الواقع، تشير بعض الشهادات إلى أن خفر السواحل كان يحاول المساعدة. ولكن مع استمرار نقص المعلومات وموقف حرس السواحل، لا يزال من الصعب تحديد ما حدث بدقة في الساعات الأولى من يوم 13 يونيو.
من الناحية الأخرى، أعلن مسؤولون في باكستان اعتقال 14 شخصًا حتى الآن يُزعم أنهم على صلة بشبكات التهريب التي نظمت الرحلة. اعتقلت السلطات الليبية شخصين زعمت أنهما يملكان القارب. اعتقل مسؤولون في منطقة البطنان شرق طبرق رئيس وحدة 20/20 في طبرق المعين حديثًا، في رد على وصول حفتر إلى منطقة نفوذ التهريب الخاصة بهم، وفقًا لمصدر ليبي مقرب من المخابرات. كما اعتقلت السلطات الأمنية في طبرق، ليبيين اثنين يملكان القارب هما محمد سعيد أبو سلطان وأشرف السنيني.
من جانبهم، كان مسؤولو الاتحاد الأوروبي خجولين للغاية في التعبير عن آرائهم حول من يقع عليه اللوم. الموقف ذاته اتخذه المسؤولون اليونانيون والمصريون. وبالمثل،
خلف الأبواب المغلقة، وفقًا لدبلوماسي أوروبي، شهدت المحادثات الثنائية بين السلطات المصرية واليونانية توترًا فيما يتعلق بحادث غرق القارب. مسؤولون يونانيون اتهموا القاهرة أنها لم تبذل مجهودًا كافيًا لمنع القارب من الدخول في المياه الليبية، بينما نفت القاهرة أن يكون القارب جاء من مصر.
كان الاتحاد الأوروبي وقّع، نهاية أكتوبر الماضي، اتفاقية تمويل بقيمة 80 مليون يورو، تمنحها لمصر ضمن برنامج لمراقبة الحدود. عبر هذا التمويل، يستهدف الاتحاد الأوروبي، تطوير قدرات وزارة الدفاع المصرية، وأصحاب المصلحة الآخرين في الحكومة، وكذلك المجتمع المدني للتقدم إلى «مقاربات حساسة جندريًا، تركز على الحماية، وتستند إلى الحقوق» في إدارة الحدود، حسبما جاء في بيان بعثة الاتحاد الأوروبي في القاهرة.
ووسط حلبة السباق السياسي والدبلوماسي هذه، تتضاءل أحلام الناجين من المأساة في تحقيق ما تطلعوا إليه حين بدأوا رحلاتهم.
مباشرة بعد نقلهم إلى الشاطئ، استخدم حرس السواحل اليونانية مستودعًا في كالاماتا كمقر احتجاز مؤقت أودع فيه الناجين منذ الساعات الأولى من يوم 14 يونيو.
وفي 16 يونيو، نُقل معظم الناجين إلى مركز الاستقبال وتحديد الهوية في مالاكاسا؛ القرية الصغيرة على بعد حوالي 30 كم شمال أثينا.
هناك، كان أقارب من كانوا على متن القارب يتوافدون عليهم طوال أيام لمعرفة ما إذا كان ذووهم بين الناجين. التواصل غير رسمي في الأغلب. لا يوجد طريقة للتواصل الرسمي مع المخيم سوى عبر المنظمات المعتمدة التي تعمل تحت إشراف الدولة. طوال فترة وجودهم في هذه المعسكرات، سيستمر طالبو اللجوء من الناجين طي النسيان لفترة طويلة. خلال هذا الوقت، سيبقون رهن الاحتجاز.
أحد أقرباء مهاجر مفقود من إيطاليا أمام معسكر مالاكاسا يبحث عن قريبه – المصدر: OmniaTV
من شبه المؤكد أن يواجه المصريون التسعة المحتجزون لائحة اتهام وحبس احتياطي لمدة قد تصل إلى 18 شهرًا. إذا كانت المحاكمات الأخرى المماثلة التي أجريت في اليونان في السنوات العشر الماضية تمنح أي مؤشر، على الأرجح ستقوم محكمة ابتدائية بإدانتهم في عدة تهم، حتى دون وجود دليل. وسيذهب المدانون إلى السجن لمدة تصل إلى عامين. بعد ذلك، سيكون لديهم فرصة أخرى لإعادة النظر في قضيتهم أمام محكمة الاستئناف، في محاولة لإلغاء الأحكام الصادرة ضدهم. قد يحالف بعضهم الحظ في العثور على محامين من منظمات المساعدة القانونية. ولكن اعتبارًا من الآن، فإن المصريين التسعة الذين شرعوا في البداية في رحلة لإيطاليا بحثًا عن حياة أفضل، سيُحاكمون في النهاية في اليونان دون دفاع سوى بمحامين معينين من قبل السلطات هناك لعدم توافر محامين آخرين معهم.